هل نعيش لنعمل؟

مسائكم/نهاركم سعيد 

أشبه صباحات الجمعة بنهر ضيق الضفتين مياهه شفافة يكاد يخلو من الاسماك ينثال بين جبال قاسية-أيام الأسبوع وساعاته-، ليغسل نكد الأسبوع ويطهر العقل من كدر التفكير ويسمو بالنفس إلى مقام الاحتياجات البشرية. حيث ان روتين العمل وضغطه تنزل بالنفس إلى ما دون البشرية، ربما إلى آلة، أو حيوان يكرر بشكل آلي ما يطلب منه، من غير خلق جديد أو ابداع حقيقي، كما يفترض بالبشر أن يفعلوا.. ولربما كلامي أعلاه هو مقدمة ممتازة لشرح "نظريتي" عن حياة الانسان وعلاقتها بالعمل والوظائف بشكلها الحالي. أنحدر من سلالة إمتهن جزئهم الزراعة والجزء الآخر التجارة، حينما أفكر بـ اللايف ستايل لهم وكيفية عيش الحياة اليومية، تبدو لي مختلفة جدا وصحية أكثر من الان. حيث يختلط الكل بالكل، يعيشون حياة اجتماعية أكثر تنوعا وصحة، لا يوجد منظومة عمل تقتطع من وقتهم ومن صحتهم ومن عمرهم وتلزمهم بمهام متناهية في الصغر تتكرر بشكل يومي، محددة بصلاحياتك فيضيق أفقك وتفكيرك وتصغر دائرة خيالك فيحدوا من قدراتك المطلقة ويضيقوا واسعا بحجة "مهامك الوظيفية" والتارقيت المطلوب وصلاحياتك الإدارية. العقل – برأيي- عضلة، قابلة للتمرين للتوسع والامتداد للابتكار والابداع للانطلاق، والعمل يوقف كل ذلك ويقتصر أداءه على مهام محددة بشكل يومي لثمانية أو تسع ساعات، كيف تتخيل شكل عقلك بعد ذلك؟ يبدو كسجين في زنزانة انفرادية، فقد القدرة على المرونة والجموح والتفكير خارج الصندوق. وحتى جلسات العصف الذهني، المدعاة، لا يمكنك أن تطلق العنان لأفكارك لأنك محدود بترتيب وظيفي معين وهرم اجتماعي وصلاحيات مبنية على رتبتك.. وكأننا كلنا جنود في منظومة صنع المال. ماذا عني أنا الانسان؟ أكافح للإبقاء على علاقاتي الاجتماعية، أكافح لأستطيع أن ابتسم بعد استنفاد طاقتي في التسع ساعات في اعمال أكررها بشكل يومي، اكافح لأوسع منظومة تفكيري وأطلقها في جميع نواحي مجال عملي لئلا يصبح محدودا. ومن مآخذي على نظام العمل القائم في عصرنا الحالي هو: التخصص; حيث أنه وبحكم صلاحياتك المحدودة فإن علمك كذلك وتطويرك وتدريبك كلله يقتصر على دائرة مهامك المحدودة داخل المنظومة، فيتوسع علمك ليس أفقيا كما هو مفترض بل بشكل دائري حيث تبقى في نفس دائرتك ومحيطك العلمي، مما يقلل من قدرة عقلك على الابتكار والتخيل، فجميع المدخلات وكذلك المخرجات تصب في دائرة ضيقة جدا نسبة إلى حجم العلوم المتوفرة في هذا الكون. لماذا؟ لتكون قطعة في آلة خلق المال لوحش عملاق، ويفنى عمرك وتتضاءل قدرتك العقلية وتضمحل علاقاتك ويمضي عمرك دون ان يكون لك أي انتاج حقيقي يخصك على هذه الأرض، باستثناء ابنائك، والذين ستكون مهملا لهم أحيانا لحاجتك للعمل في الدائرة الضيقة أعلاه. أترى؟ نحن نعيش في دائرة ضيقة تحد من قدراتنا وامكاناتنا البشرية فكريا وجسديا، خلق الله الجسد والعقل البشري بصورة مذهلة ومبهرة، بإمكانات لامحدودة، هل تفرجت يوما على مقاطع فيديو لمن يمارس الباركور؟ أو لاعبو الاولمبياد؟ او الفائزين بمسابقات الرياضيات او العلوم؟ أترى التمرين المستمر وتطوير العقل أين يمكن أن يصل بالإنسان؟ أنا متأكدة أن كل ما نراه من قدرات وابتكارات بشرية هي نقطة في بحر القدرة البشرية اللامحدودة، انشغال الانسان بتوفير قوت يومه وطعامه وسكن لائق بكرامته والتنافس مع الاخرين بالتملك ورفع مستوى المعيشة، حدت من قدرته على الابتكار والتحليق في بحر إمكاناته اللامحدودة. كم أتمنى لو استطعت عمل تجربة اجتماعية لخمسون سنة تقريبا، حيث اتبنى أطفال حديثو الولادة وأقيم لهم مجتمعا خاص بهم حيث لا ينشغل الانسان بالتعلم للعمل أو الانخراط في مجتمعنا الطبيعي، بل يكون لهم مطلق الحرية في النهل من العلوم والتمرن الجسدي والعقلي، ولا يكون اختلاطهم الا ببعضهم مع توفير حياة كريمة بحيث نلغي العامل المادي تماما من معادلة الحياة البشرية. أتستطيع ان تتخيل كيف تكون الحياة؟ ما نوع المشكلات والتعقيدات التي قد يواجهها الانسان؟ كيف ستكون العلاقة مع الشريك\ الحبيب، مع الأصدقاء؟ ما نوعية الضغوطات التي قد تتكون لدى الانسان؟ لا أعرف ولن أعرف، لكن أتصور انها ستكون اهنأ وأكثر ابداعا وخلقا من حياتنا الحالية. تبدو نظرية خيالية، اعرف، ولكني أحاول تحرير عقلي من دائرة العمل الضيقة، أحاول ان أنهل من جميع العلوم وأن أسمو بعقلي من دائرة الصلاحيات الضيقة إلى رحاب الخيال الواسع. الادب معاون جيد في ذلك الأصدقاء ذو الصدر الرحب والخيال الجامح أيضا مفيدين، تويتر سابقا كان عامل هام ولكن حاليا تحول إلى معركة فاجتنبته.. أحاول أن أبقى حية بالمعنى الذي أريد للإنسان أن يعمل به. إن حديثي أعلاه، لا يعني أني أكره العمل في المبيعات أو مجال التأمين، على العكس أحب جدا قطاع التأمين، إذ أعتقد أنه قطاع ذكي جدا ويحتاج لأن تبقي حي البال ومطلع دائما على الاحداث العالمية والاقتصادية لتتمكن من مجاراة هذا القطاع النشط. واحب المبيعات لأني أحب الناس واحب الحديث معهم واقناعهم والنقاش ورؤية الأمور من منظورهم ومعرفة أولوياتهم بالحياة واكتسبت وعرفت الكثير من عملائي.. وآمل انهم استفادوا وتعلموا مني كذلك. لكني فقط حانقة على الدائرة الضيقة التي أجبرت على العيش فيها بحكم "مسماي الوظيفي وصلاحياتي المحدودة".